فصل: باب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


كتاب الجنائز

*2*كتاب الجنائز

*3*باب مَا جَاءَ فِي الْجَنَائِزِ

وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الجنائز‏)‏ كذا للأصيلي وأبي الوقت، والبسملة من الأصل، ولكريمة ‏"‏ باب في الجنائز ‏"‏ وكذا لأبي ذر لكن بحذف ‏"‏ باب ‏"‏ والجنائز بفتح الجيم لا غير جمع جنازة بالفتح والكسر لغتان، قال ابن قتيبة وجماعة‏:‏ الكسر أفصح، وقيل بالكسر للنعش وبالفتح للميت‏.‏

وقالوا لا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أورد المصنف وغيره كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة لتعلقها بهما، ولأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب ولا سيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله‏)‏ قيل أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن مرة الحضرمي عن معاذ بن جبل قال‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ‏"‏ قال الزين بن المنير‏:‏ حذف المصنف جواب ‏"‏ من ‏"‏ من الترجمة مراعاة لتأويل وهب بن منبه فأبقاه إما ليوافقه أو ليبقي الخبر على ظاهره‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زرعة‏:‏ أنه لما احتضر أرادوا تلقينه، فتذكروا حديث معاذ، فحدثهم به أبو زرعة بإسناده، وخرجت روحه في آخر قول لا إله إلا الله‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ كأن المصنف لم يثبت عنده في التلقين شيء على شرطه فاكتفى بما دل عليه، وقد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة من وجه آخر بلفظ ‏"‏ لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ‏"‏ وعن أبي سعيد كذلك، قال الزين بن المنير‏:‏ هذا الخبر يتناول بلفظه من قالها فبغته الموت، أو طالت حياته لكن لم يتكلم بشيء غيرها، ويخرج بمفهومه من تكلم لكن استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها، فإن عمل أعمالا سيئة كان في المشيئة، وإن عمل أعمالا صالحة فقضية سعة رحمة الله أن لا فرق بين الإسلام النطقي والحكمي المستصحب والله أعلم‏.‏

انتهى‏.‏

وحكى الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه لقن عند الموت فأكثر عليه فقال‏:‏ إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام‏.‏

وهذا يدل على أنه كان يرى التفرقة في هذا المقام‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقيل لوهب بن منبه‏:‏ أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله إلخ‏)‏ يجوز نصب مفتاح على أنه خبر مقدم ورفعه على أنه مبتدأ، كأن القائل أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له ‏"‏ إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل‏:‏ مفتاحها لا إله إلا الله ‏"‏ وروي عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه أخرجه البيهقي في الشعب وزاد ‏"‏ ولكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك ‏"‏ وهذه الزيادة نظير ما أجاب به وهب، فيحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ‏.‏

وأما أثر وهب فوصله المصنف في التاريخ وأبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن سعيد بن رمانة بضم الراء وتشديد الميم وبعد الألف نون قال‏:‏ أخبرني أبي قال قيل لوهب بن منبه فذكره‏.‏

والمراد بقوله لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعا‏.‏

وأما قول وهب فمراده بالأسنان التزام الطاعة فلا يرد إشكال موافقة الخوارج وغيرهم أن أهل الكبائر لا يدخلون الجنة‏.‏

وأما قوله ‏"‏ لم يفتح له ‏"‏ فكأن مراده لم يفتح له فتحا تاما، أو لم يفتح له في أولي الأمر، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أنهم في مشيئة الله تعالى‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور بسند حسن عن وهب بن منبه قريبا من كلامه هذا في التهليل ولفظه ‏"‏ عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر ‏"‏ قال الداودي‏:‏ قول وهب محمول على التشديد، ولعله لم يبلغه حديث أبي ذر، أي حديث الباب‏.‏

والحق أن من قال لا إله إلا الله مخلصا أتي بمفتاح وله أسنان، لكن من خلط ذلك بالكبائر حتى مات مصرا عليها لم تكن أسنانه قوية، فربما طال علاجه‏.‏

وقال ابن رشيد‏:‏ يحتمل أن يكون مراد البخاري الإشارة إلى أن من قال لا إله إلا الله مخلصا عند الموت كان ذلك مسقطا لما تقدم له، والإخلاص يستلزم التوبة والندم، ويكون النطق علما على ذلك‏.‏

وأدخل حديث أبي ذر ليبين أنه لا بد من الاعتقاد، ولهذا قال عقب حديث أبي ذر في كتاب اللباس‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم‏.‏

ومعنى قول وهب إن جئت بمفتاح له أسنان جياد فهو من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق لأن مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان وإلا فهو عود أو حديدة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي أَوْ قَالَ بَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتاني آت‏)‏ سماه في التوحيد من طريق شعبة عن واصل ‏"‏ جبريل ‏"‏ وجزم بقوله ‏"‏ فبشرني ‏"‏ وزاد الإسماعيلي من طريق مهدي في أوله قصة قال ‏"‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له، فلما كان في بعض الليل تنحى فلبث طويلا، ثم أتانا فقال ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وأورده المصنف في اللباس من طريق أبي الأسود عن أبي ذر قال ‏"‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ ‏"‏ فدل على أنها رؤيا منام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أمتي‏)‏ أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك أي أمة الدعوة وهو متجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يشرك بالله شيئا‏)‏ أورده المصنف في اللباس بلفظ ‏"‏ ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك ‏"‏ الحديث‏.‏

إنما لم يورده المصنف هنا جريا على عادته في إيثار الخفي على الجلي، وذلك أن نفي الشرك يستلزم إثبات التوحيد، ويشهد له استنباط عبد الله بن مسعود في ثاني حديثي الباب من مفهوم قوله ‏"‏ من مات يشرك بالله دخل النار ‏"‏ وقال القرطبي‏:‏ معنى نفي الشرك أن لا يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، لكن هذا القول صار بحكم العرف عبارة عن الإيمان الشرعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت وإن زنى أو سرق‏)‏ قد يتبادر إلى الذهن أن القائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم والمقول له الملك الذي بشره به، وليس كذلك، بل القائل هو أبو ذر والمقول له هو النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه المؤلف في اللباس‏.‏

وللترمذي ‏"‏ قال أبو ذر يا رسول الله ‏"‏ ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله مستوضحا وأبو ذر قاله مستبعدا، وقد جمع بينهما في الرقاق من طريق زيد بن وهب عن أبي ذر‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ حديث أبي ذر من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة، ومن ثم رد صلى الله عليه وسلم على أبي ذر استبعاده‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بقوله ‏"‏ دخل الجنة ‏"‏ أي صار إليها إما ابتداء من أول الحال وإما بعد أن يقع ما يقع من العذاب، نسأل الله العفو والعافية‏.‏

وفي هذا الحديث ‏"‏ من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه ‏"‏ وسيأتي بيان حاله في كتاب الرقاق‏.‏

وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة‏.‏

والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‏"‏ لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة بحمل هذا على الإيمان الكامل ويحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على رغم أنف أبي ذر‏)‏ بفتح الراء وسكون المعجمة ويقال بضمها وكسرها، وهو مصدر رغم بفتح الغين وكسرها مأخوذ من الرغم وهو التراب، وكأنه دعا عليه بأن يلصق أنفه بالتراب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمر بن حفص‏)‏ أي ابن غياث، وشقيق هو أبو وائل، وعبد الله هو ابن مسعود، وكلهم كوفيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من مات يشرك بالله‏)‏ في رواية أبي حمزة عن الأعمش في تفسير البقرة ‏"‏ من مات وهو يدعو من دون الله ندا ‏"‏ وفي أوله ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى‏"‏، ولم تختلف الروايات في الصحيحين في أن المرفوع الوعيد والموقوف الوعد‏.‏

وزعم الحميدي في ‏"‏ الجمع ‏"‏ وتبعه مغلطاي في شرحه ومن أخذ عنه أن في رواية مسلم من طريق وكيع وابن نمير بالعكس بلفظ ‏"‏ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وقلت أنا من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ‏"‏ وكأن سبب الوهم في ذلك ما وقع عند أبي عوانة والإسماعيلي من طريق وكيع بالعكس، لكن بين الإسماعيلي أن المحفوظ عن وكيع كما في البخاري، قال‏:‏ وإنما المحفوظ أن الذي قلبه أبو عوانة وحده وبذلك جزم ابن خزيمة في صحيحه، والصواب رواية الجماعة، وكذلك أخرجه أحمد من طريق عاصم وابن خزيمة من طريق يسار وابن حبان من طريق المغيرة كلهم عن شقيق، وهذا هو الذي يقتضيه النظر لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن وجاءت السنة على وفقه فلا يحتاج إلى استنباط، بخلاف جانب الوعد فإنه في محل البحث إذ لا يصح حمله على ظاهره كما تقدم‏.‏

وكأن ابن مسعود لم يبلغه حديث جابر الذي أخرجه مسلم بلفظ ‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله ما الموجبتان‏؟‏ قال‏:‏ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ‏"‏ وقال النووي‏:‏ الجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها ولم يحفظ الأخرى فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، وفي وقت بالعكس، قال‏:‏ فهذا جمع بين روايتي ابن مسعود وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظتين انتهى‏.‏

وهذا الذي قال محتمل بلا شك، لكن فيه بعد مع اتحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود لكان احتمالا قريبا مع أنه يستغرب من انفراد راو من الرواة بذلك دون رفقته وشيخهم ومن فوقه، فنسبة السهو إلى شخص ليس بمعصوم أولى من هذا التعسف‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ حكى الخطيب في ‏"‏ المدرج ‏"‏ أن أحمد بن عبد الجبار رواه عن أبي بكر بن عياش عن عاصم مرفوعا كله وأنه وهم في ذلك، وفي حديث ابن مسعود دلالة على أنه كان يقول بدليل الخطاب، ويحتمل أن يكون أثر ابن مسعود أخذه من ضرورة انحصار الجزاء في الجنة والنار، وفيه إطلاق الكلمة على الكلام الكثير وسيأتي البحث فيه في الأيمان والنذور‏.‏

*3*باب الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الأمر باتباع الجنائز‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم يفصح بحكمه لأن قوله ‏"‏ أمرنا ‏"‏ أعم من أن يكون للوجوب أو للندب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَشْعَثِ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالْإِسْتَبْرَقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الأشعث‏)‏ هو ابن أبي الشعثاء المحاربي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن البراء بن عازب‏)‏ أورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة عن الأشعث فقال فيه ‏"‏ سمعت البراء بن عازب‏"‏، ولمسلم من طريق زهير بن معاوية عن الأشعث عن معاوية بن سويد قال ‏"‏ دخلت على البراء بن عازب فسمعته يقول ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع‏)‏ أما المأمورات فسنذكر شرحها في كتابي الأدب واللباس، والذي يتعلق منها بهذا الباب اتباع الجنائز‏.‏

وأما المنهيات فمحل شرحها كتاب اللباس وسيأتي الكلام عليها فيه، وسقط من المنهيات في هذا الباب واحدة سهوا إما من المصنف أو من شيخه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَرَوَاهُ سَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ عَنْ عُقَيْلٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد‏)‏ كذا في جميع الروايات غير منسوب‏.‏

وقال الكلاباذي‏:‏ هو الذهلي، وعمرو بن أبي سلمة هو التنيسي وقد ضعفه ابن معين بسبب أن في حديثه عن الأوزاعي مناولة وإجازة، لكن بين أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول فيما سمعه ‏"‏ حدثنا ‏"‏ ولا يقول ذلك فيما لم يسمعه، وعلى هذا فقد عنعن هذا الحديث فدل على أنه لم يسمعه، والجواب عن البخاري أنه يعتمد على المناولة ويحتج بها، وقصارى هذا الحديث أن يكون منها، وقد قواه بالمتابعة التي ذكرها عقبة، ولم ينفرد به عمرو، ومع ذلك فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي، وكأن البخاري اختار طريق عمرو لوقوع التصريح فيها بالإخبار بين الأوزاعي والزهري، ومتابعة عبد الرزاق التي ذكرها وصلها مسلم وقال في آخره‏:‏ كان معمر يرسل هذا الحديث وأسنده مرة عن ابن المسيب عن أبي هريرة‏.‏

وقد وقع لي معلقا في جزء الذهلي ‏"‏ قال أخبرنا عبد الرزاق ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وأما رواية سلامة وهو بتخفيف اللام وهو ابن أخي عقيل فأظنها في الزهريات للذهلي، وله نسخة عن عمه عن الزهري، ويقال إنه كان يرويها من كتاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حق المسلم على المسلم خمس‏)‏ في رواية مسلم من طريق عبد الرزاق ‏"‏ خمس تجب للمسلم على المسلم ‏"‏ وله من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ‏"‏ حق المسلم على المسلم ست ‏"‏ وزاد ‏"‏ وإذا استنصحك فانصح له ‏"‏ وقد تبين أن معنى ‏"‏ الحق ‏"‏ هنا الوجوب خلافا لقول ابن بطال‏:‏ المراد حق الحرمة والصحبة، والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رد السلام‏)‏ يأتي الكلام على أحكامه في الاستئذان، وعيادة المريض يأتي الكلام عليها في المرضى، وإجابة الداعي يأتي الكلام عليها في الوليمة، وتشميت العاطس يأتي الكلام عليه في الأدب‏.‏

وأما اتباع الجنائز فسيأتي الكلام عليه في ‏"‏ باب فضل اتباع الجنائز ‏"‏ في وسط كتاب الجنائز، والمقصود هنا إثبات مشروعيته فلا تكرار‏.‏

*3*باب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه‏)‏ أي لف فيها، قال ابن رشيد‏:‏ موقع هذه الترجمة من الفقه أن الموت لما كان سبب تغيير محاسن الحي التي عهد عليها - ولذلك أمر بتغميضه وتغطيته - كان ذلك مظنة للمنع من كشفه حتى قال النخعي‏:‏ ينبغي أن لا يطلع عليه إلا الغاسل له ومن يليه، فترجم البخاري على جواز ذلك، ثم أورد فيه ثلاثة أحاديث‏:‏ أولها حديث عائشة في دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مات، وسيأتي مستوفى في باب الوفاة آخر المغازي، ومطابقته للترجمة واضحة كما سنبينه، وأشد ما فيه إشكالا قول أبي بكر لا يجمع الله عليك موتتين، وعنه أجوبة‏:‏ فقيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذي مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها‏.‏

وقيل أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسأل ثم يموت، وهذا جواب الداودي، وقيل لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك‏.‏

وقيل كنى بالموت الثاني عن الكرب، أي لا نلقى بعد كرب هذا الموت كربا آخر‏.‏

ثانيها حديث أم العلاء الأنصارية في قصة عثمان بن مظعون وسيأتي بأتم من هذا السياق في ‏"‏ باب القرعة ‏"‏ آخر الشهادات، وفي التعبير‏.‏

ثالثها حديث جابر في موت أبيه وسيأتي في كتاب الجهاد‏.‏

ودلالة الأول والثالث مشكلة لأن أبا بكر إنما دخل قبل الغسل فضلا عن التكفين وعمر ينكر حينئذ أن يكون مات، ولأن جابرا كشف الثوب عن وجه أبيه قبل تكفينه‏.‏

وقد يقال في الجواب عن الأول‏:‏ إن الذي وقع دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى أي مغطى، فيؤخذ منه أن الدخول على الميت يمتنع إلا إن كان مدرجا في أكفانه أو في حكم المدرج لئلا يطلع منه على ما يكره الاطلاع عليه‏.‏

وقال الزين بن المنير ما محصله‏:‏ كان أبو بكر عالما بأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال مصونا عن كل أذى فساغ له الدخول من غير تنقيب عن الحال، وليس ذلك لغيره‏.‏

وأما الجواب عن حديث جابر فأجاب ابن المنير أيضا بأن ثياب الشهيد التي قتل فيها هي أكفانه فهو كالمدرج، ويمكن أن يقال نهيهم له عن كشف وجهه يدل على المنع من الاقتراب من الميت، ولكن يتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينهه، ويجاب بأن عدم نهيهم عن نهيه يدل على تقرير نهيهم، فتبين أن الدخول الثابت في الأحاديث الثلاثة كان في حالة الإدراج أو في حالة تقوم مقامها‏.‏

قال ابن رشيد‏:‏ المعنى الذي في الحديثين من كشف الميت بعد تسجيته مساو لحاله بعد تكفينه والله أعلم‏.‏

وفي هذه الأحاديث جواز تقبيل الميت تعظيما وتبركا وجواز التفدية بالآباء والأمهات، وقد يقال هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها ولا تقصد معناها الحقيقي إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصور، وجواز البكاء على الميت، وسيأتي مبسوطا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إِلَى الشَّاكِرِينَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أخبرنا عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك، ومعمر هو ابن راشد، ويونس هو ابن يزيد، والسنح بضم المهملة وسكون النون بعدها حاء مهملة منازل بني الحارث بن الخزرج وكان أبو بكر متزوجا فيهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتيمم‏)‏ أي قصد‏.‏

وبرد حبرة بكسر المهملة وفتح الموحدة بوزن عنبة، ويجوز فيه التنوين على الوصف، وعدمه على الإضافة، وهي نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقبله‏)‏ أي بين عينيه‏.‏

وقد ترجم عليه النسائي وأورده صريحا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏التي كتب الله‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ التي كتب ‏"‏ بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه اقتسم‏)‏ الهاء ضمير الشأن واقتسم بضم المثناة، والمعنى أن الأنصار اقترعوا على سكنى المهاجرين لما دخلوا عليهم المدينة‏.‏

وقولها ‏(‏فطار لنا‏)‏ أي وقع في سهمنا، وذكره بعض المغاربة بالصاد ‏"‏ فصار لنا ‏"‏ وهو صحيح من حيث المعنى إن ثبتت الرواية‏.‏

وقولها ‏(‏أبا السائب‏)‏ تعني عثمان المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما يفعل بي‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ به ‏"‏ وهو غلط منه، فإن المحفوظ في رواية الليث هذا، ولذلك عقبه المصنف برواية نافع بن يزيد عن عقيل التي لفظها ‏"‏ ما يفعل به ‏"‏ وعلق منها هذا القدر فقط إشارة إلى أن باقي الحديث لم يختلف فيه، ورواية نافع المذكورة وصلها الإسماعيلي، وأما متابعة شعيب فستأتي في أواخر الشهادات موصولة، وأما متابعة عمرو بن دينار فوصلها ابن أبي عمر في مسنده عن ابن عيينة عنه، وأما متابعة معمر فوصلها المصنف في التعبير من طريق ابن المبارك عنه، وقد وصلها عبد الرزاق عن معمر أيضا‏.‏

ورويناها في مسند عبد بن حميد ‏(‏ن 452‏)‏ قال أخبرنا عبد الرزاق ولفظه ‏"‏ فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم ‏"‏ وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف ‏(‏قل ما كنت بدعا من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏)‏ وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى ‏(‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏)‏ لأن الأحقاف مكية، وسورة الفتح مدنية بلا خلاف فيهما، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ أنا أول من يدخل الجنة ‏"‏ وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه، فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل، والنفي على الإحاطة من حيث التفصيل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وينهوني‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وينهونني ‏"‏ وهو أوجه، وفاطمة عمة جابر وهي شقيقة أبيه عبد الله بن عمرو، و ‏"‏ أو ‏"‏ في قوله ‏"‏ تبكين أو لا تبكين ‏"‏ للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه، ويحتمل أن يكون شكا من الراوي، وسيأتي البحث فيه في كتاب الجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه ابن جريج إلخ‏)‏ وصله مسلم من طريق عبد الرزاق عنه، وأوله ‏"‏ جاء قومي بأبي قتيلا يوم أحد‏"‏‏.‏

*3*باب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه‏)‏ كذا في أكثر الروايات، ووقع للكشميهني بحذف الموحدة‏.‏

وفي رواية الأصيلي بحذف ‏"‏ أهل ‏"‏ فعلى الرواية المشهورة يكون المفعول محذوفا والضمير في قوله ‏"‏ بنفسه ‏"‏ للراجل الذي ينعى الميت إلى أهل الميت بنفسه‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ الضمير للميت لأن الذي ينكر عادة هو نعي الناس لما يدخل على القلب من هول الموت انتهى، والأول أولى، وأشار المهلب إلى أن في الترجمة خللا قال‏:‏ والصواب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه كذا قال، ولم يصنع شيئا إلا أنه أبدل لفظ الأهل بالناس، وأثبت المفعول المحذوف، ولعله كان ثابتا في الأصل فسقط أو حذف عمدا لدلالة الكلام عليه، أو لفظ ‏"‏ ينعى ‏"‏ بضم أوله، والمراد بالرجل الميت والضمير حينئذ له كما قال الزين بن المنير، ويستقيم عليه رواية الكشميهني‏.‏

وأما التفكير بالأهل فلا خلل فيه لأن مراده به ما هو أعم من القرابة وهو أخوة الدين، وهو أولى من التعبير بالناس لأنه يخرج من ليس له به أهلية كالكفار، وأما رواية الأصيلي فقال ابن رشيد إنها فاسدة، قال‏:‏ وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعا كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق‏.‏

وقال ابن المرابط‏:‏ مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام‏.‏

وأما نعي الجاهلية فقال سعيد بن منصور ‏"‏ أخبرنا ابن علية عن ابن عون قال قلت لإبراهيم‏:‏ أكانوا يكرهون النعي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال ابن عون‏:‏ كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابة ثم صاح في الناس‏:‏ أنعي فلانا ‏"‏ وبه إلى ابن عون قال‏:‏ قال ابن سيرين‏:‏ لا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه‏.‏

وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك حتى ‏"‏ كان حذيفة إذا مات له الميت يقول‏:‏ لا تؤذنوا به أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهى عن النعي ‏"‏ أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن، قال ابن العربي‏:‏ يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات، الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب حديثين‏:‏ أحدهما حديث أبي هريرة في الصلاة على النجاشي وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الجنائز، ثانيهما حديث أنس في قصة قتل الأمراء بمؤتة وسيأتي الكلام عليه في المغازي‏.‏

وورد في علامات النبوة بلفظ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا ‏"‏ الحديث، قال الزين بن المنير‏:‏ وجه دخول قصة الأمراء في الترجمة أن نعيهم كان لأقاربهم وللمسلمين الذين هم أهلهم من جهة الدين، ووجه دخول قصة النجاشي كونه كان غريبا في ديار قومه فكان للمسلمين من حيث الإسلام أخا فكانوا أخص به من قرابته‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون بعض أقرباء النجاشي كان بالمدينة حينئذ ممن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة كذي مخمر ابن أخي النجاشي فيستوي الحديثان في إعلام أهل كل منهما حقيقة ومجازا‏.‏

*3*باب الْإِذْنِ بِالْجَنَازَةِ

وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا آذَنْتُمُونِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الإذن بالجنازة‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ ضبطناه بكسر الهمزة وسكون المعجمة، وضبطه ابن المرابط بمد الهمزة وكسر الذال على وزن الفاعل‏.‏

قلت‏:‏ والأول أوجه، والمعنى الإعلام بالجنازة إذا انتهى أمرها ليصلى عليها‏.‏

قيل‏:‏ هذه الترجمة تغاير التي قبلها من جهة أن المراد بها الإعلام بالنفس وبالغير، قال الزين بن المنير‏:‏ هي مرتبة على التي قبلها لأن النعي إعلام من لم يتقدم له علم بالميت، والإذن إعلام من علم بتهيئة أمره وهو حسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو رافع عن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا كنتم آذنتموني‏)‏ هذا طرف من حديث تقدم الكلام عليه مستوفى في ‏"‏ باب كنس المسجد ‏"‏ ومناسبته للترجمة واضحة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي قَالُوا كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني محمد‏)‏ هو ابن سلام كما جزم به أبو علي بن السكن في روايته عن الفربري، وأبو معاوية هو الضرير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده‏)‏ وقع في شرح الشيخ سراج الدين عمر بن الملقن أنه الميت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقم المسجد، وهو وهم منه لتغاير القصتين، فقد تقدم أن الصحيح في الأول أنها امرأة وأنها أم محجن، وأما هذا فهو رجل واسمه طلحة بن البراء بن عمير البلوي حليف الأنصار روى حديثه أبو داود مختصرا والطبراني من طريق عروة بن سعيد الأنصاري عن أبيه عن حسين بن وحوح الأنصاري وهو بمهملتين بوزن جعفر ‏"‏ أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال‏.‏

إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا ‏"‏ فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي، وكان قال لأهله لما دخل الليل‏:‏ إذا مت فادفنوني ولا تدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه يهودا أن يصاب بسببي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح فجاء حتى وقف على قبره فصف الناس معه، ثم رفع يديه فقال‏:‏ اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان الليل‏)‏ بالرفع، وكذا قوله ‏"‏ وكانت ظلمة ‏"‏ فكان فيهما تامة، وسيأتي الكلام على حكم الصلاة على القبر في ‏"‏ باب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنازة ‏"‏ مع بقية الكلام على هذا الحديث‏.‏

*3*باب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ

وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل من مات له ولد فاحتسب‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ عبر المصنف بالفضل ليجمع بين مختلف الأحاديث الثلاثة التي أوردها، لأن في الأول دخول الجنة، وفي الثاني الحجب عن النار، وفي الثالث تقييد الولوج بتحلة القسم، وفي كل منها ثبوت الفضل لمن وقع له ذلك‏.‏

ويجمع بينها بأن يقال‏:‏ الدخول لا يستلزم الحجب ففي ذكر الحجب فائدة زائدة لأنها تستلزم الدخول من أول وهلة، وأما الثالث فالمراد بالولوج الورود وهو المرور على النار كما سيأتي البحث فيه عند قوله ‏"‏ إلا تحلة القسم ‏"‏ والمار عليها على أقسام‏:‏ منهم من لا يسمع حسيسها وهم الذين سبقت لهم الحسنى من الله كما في القرآن، فلا تنافي مع هذا بين الولوج والحجب، وعبر بقوله ‏"‏ ولد ‏"‏ ليتناول الواحد فصاعدا وإن كان حديث الباب قد قيد بثلاثة أو اثنتين، لكن وقع في بعض طرقه ذكر الواحد ففي حديث جابر بن سمرة مرفوعا ‏"‏ من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة، فقالت أم أيمن‏:‏ أو اثنين‏؟‏ فقال‏:‏ أو اثنين‏.‏

فقالت‏:‏ وواحد‏؟‏ فسكت ثم قال‏:‏ وواحد ‏"‏ أخرجه الطبراني في الأوسط‏.‏

وحديث ابن مسعود مرفوعا ‏"‏ من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار‏.‏

قال أبو ذر‏:‏ قدمت اثنين، قال‏:‏ واثنين‏.‏

قال أبي بن كعب‏:‏ قدمت واحدا، قال‏:‏ وواحدا ‏"‏ أخرجه الترمذي وقال‏:‏ غريب، وعنده من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ فمن كان له فرط‏؟‏ قال‏:‏ ومن كان له فرط ‏"‏ الحديث‏.‏

وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج، بل وقع في رواية شريك التي علق المصنف إسنادها كما سيأتي ولم يسأله عن الواحد، وروى النسائي وابن حبان من طريق حفص بن عبيد الله عن أنس أن المرأة التي قالت واثنان قالت بعد ذلك يا ليتني قلت وواحد‏.‏

وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد عن جابر رفعه ‏"‏ من مات له ثلاث من الولد فاحتسبهم دخل الجنة‏.‏

قلنا‏:‏ يا رسول الله واثنان‏؟‏ قال محمود قلت لجابر أراكم لو قلتم وواحد لقال وواحد، قال‏:‏ وأنا أظن ذلك ‏"‏ وهذه الأحاديث الثلاثة أصح من تلك الثلاثة، لكن روى المصنف من حديث أبي هريرة كما سيأتي في الرقاق مرفوعا ‏"‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ‏"‏ وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك، وقوله ‏"‏فاحتسب ‏"‏ أي صبر راضيا بقضاء الله راجيا فضله، ولم يقع التقييد بذلك أيضا في أحاديث الباب، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه أيضا كما في حديث جابر بن سمرة المذكور قبل، وكذا في حديث جابر بن عبد الله‏.‏

وفي رواية ابن حبان والنسائي من طريق حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس رفعه ‏"‏ من احتسب من صلبه ثلاثة دخل الجنة ‏"‏ الحديث، ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ‏"‏ لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة ‏"‏ الحديث، ولأحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر رفعه ‏"‏ من أعطى ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة ‏"‏ وفي الموطأ عن أبي النضر السلمي رفعه ‏"‏ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا جنة من النار ‏"‏ الحديث‏.‏

وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلا بد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة، ولكن أشار الإسماعيلي إلى اعتراض لفظي فقال‏:‏ يقال في البالغ احتسب وفي الصغير افترط انتهى‏.‏

وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دريد وغيره احتسب فلان بكذا طلب أجرا عند الله، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير، وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها وهي حجة في صحة هذا الاستعمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل وبشر الصابرين‏)‏ في رواية كريمة والأصيلي ‏"‏ وقال الله ‏"‏ وأراد بذلك الآية التي في البقرة وقد وصف فيها الصابرون بقوله تعالى ‏(‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‏)‏ فكأن المصنف أراد تقييد ما أطلق في الحديث بهذه الآية الدالة على ترك القلق والجزع، ولفظ ‏"‏ المصيبة ‏"‏ قي الآية وإن كان عاما لكنه يتناول المصيبة بالولد فهو من أفراده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد العزيز‏)‏ هو ابن صهيب وصرح به في رواية ابن ماجه والإسماعيلي من هذا الوجه، والإسناد كله بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما من الناس من مسلم‏)‏ قيده به ليخرج الكافر، ومن الأولى بيانية والثانية زائدة، وسقطت من في رواية ابن علية عن عبد العزيز كما سيأتي في أواخر الجنائز، و ‏"‏ مسلم ‏"‏ اسم ما والاستثناء وما معه الخبر، والحديث ظاهر في اختصاص ذلك بالمسلم لكن هل يحصل ذلك لمن مات له أولاد في الكفر ثم أسلم‏؟‏ فيه نظر، ويدل على عدم ذلك حديث أبي ثعلبة الأشجعي قال ‏"‏ قلت يا رسول الله مات لي ولدان، قال‏:‏ من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة ‏"‏ أخرجه أحمد والطبراني، وعن عمرو بن عبسة مرفوعا ‏"‏ من مات له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا أدخله الله الجنة ‏"‏ أخرجه أحمد أيضا‏.‏

وأخرج أيضا عن رجاء الأسلمية قالت ‏"‏ جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله ادع الله لي في ابن لي بالبركة فإنه قد توفي له ثلاثة، فقال‏:‏ أمنذ أسلمت‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏"‏‏.‏

فذكر الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتوفى له‏)‏ بضم أوله ووقع في رواية ابن ماجه المذكورة ‏"‏ ما من مسلمين يتوفى لهما ‏"‏ والظاهر أن المراد من ولده الرجل حقيقة، ويدل عليه رواية النسائي المذكورة من طريق حفص عن أنس ففيها ‏"‏ ثلاثة من صلبه‏"‏، وكذا حديث عقبة بن عامر، وهل يدخل في الأولاد أولاد الأولاد‏؟‏ محل بحث، والذي يظهر أن أولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، وفي التقيد بكونهم من صلبه ما يدل على إخراج أولاد البنات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاثة‏)‏ كذا للأكثر وهو الموجود في غير البخاري ووقع في رواية الأصيلي وكريمة ‏"‏ ثلاث ‏"‏ بحذف الهاء وهو جائز لكون المميز محذوفا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يبلغوا الحنث‏)‏ كذا للجميع بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة، وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا أن يعملوا المعاصي، قال ولم يذكره كذلك غيره، والمحفوظ الأول، والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام‏.‏

قال الخليل‏:‏ بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث الذنب قال الله تعالى ‏(‏وكانوا يصرون على الحنث العظيم‏)‏ وقيل المراد بلغ إلى زمان يؤاخذ بيمينه إذا حنث‏.‏

وقال الراغب‏:‏ عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلع الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء، وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضى لعدم الرحمة بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوي لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كل على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي ووصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق‏؟‏ قال‏:‏ ولعل هذا هو السر في إلغاء البخاري التقييد بذلك في الترجمة‏.‏

انتهى‏.‏

ويقوي الأول قوله في بقية الحديث ‏"‏ بفضل رحمته إياهم ‏"‏ لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلا واستمر على ذلك فمات‏؟‏ فيه نظر لأن كونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخف بموتهم يقتضي عدمه، ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشده الحب ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده وتبرمه منه ولا سيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط به الحكم وإن تخلف في بعض الأفراد‏.‏

قوله ‏(‏إلا أدخله الله الجنة‏)‏ في حديث عتبة بن عبد الله السلمي عند ابن ماجه بإسناد حسن نحو حديث الباب لكن فيه ‏"‏ إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل ‏"‏ وهذا زائد على مطلق دخول الجنة، ويشهد له ما رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا في أثناء حديث ‏"‏ ما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏بفضل رحمته إياهم‏)‏ أي بفضل رحمة الله للأولاد‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ قيل إن الضمير في رحمته للأب لكونه كان يرحمهم في الدنيا فيجازى بالرحمة في الآخرة والأول أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه ‏"‏ بفضل رحمة الله إياهم ‏"‏ وللنسائي من حديث أبي ذر ‏"‏ إلا غفر الله لهما بفضل رحمته ‏"‏ وللطبراني وابن حبان من حديث الحارث بن أقيش وهو بقاف ومعجمة مصغر مرفوعا ‏"‏ ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته ‏"‏ وكذا في حديث عمرو بن عبسة كما سنذكره قريبا‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ الظاهر أن المراد بقوله ‏"‏ إياهم ‏"‏ جنس المسلم الذي مات أولاده لا الأولاد، أي بفضل رحمة الله لمن مات لهم، قال وساغ الجمع لكونه نكرة في سياق النفي فتعمم انتهى‏.‏

وهذا الذي زعم أنه ظاهر ليس بظاهر، بل في غير هذا الطريق ما يدل على أن الضمير للأولاد، ففي حديث عمرو بن عبسة عند الطبراني ‏"‏ إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم الجنة ‏"‏ وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي المقدم ذكره ‏"‏ أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ‏"‏ قاله بعد قوله ‏"‏ من مات له ولدان ‏"‏ فوضح بذلك أن الضمير في قوله ‏"‏ إياهم ‏"‏ للأولاد لا للآباء والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني‏)‏ في رواية الأصيلي ‏"‏ أخبرنا ‏"‏ واسم والد عبد الرحمن المذكور عبد الله، قال البخاري في التاريخ‏:‏ إن أصله من أصبهان لما فتحها أبو موسى‏.‏

وقال غيره كان عبد الله يتجر إلى أصبهان فقيل له الأصبهاني، ولا منافاة بين القولين فيما يظهر لي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ذكوان‏)‏ هو أبو صالح السمان المذكور في الإسناد المعلق الذي يليه، وقد تقدم في العلم من رواية ابن الأصبهاني أيضا عن أبي حازم عن أبي هريرة، فتحصل له روايته عن شيخين، ولشيخه أبي صالح روايته عن شيخين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اجعل لنا يوما‏)‏ تقدم في العلم بأتم من هذا السياق مع الكلام منه على ما لا يتكرر هنا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏أيما امرأة‏)‏ إنما خص المرأة بالذكر لأن الخطاب حينئذ كان للنساء وليس له مفهوم لما في بقية الطرق‏.‏

قوله ‏(‏ثلاثة‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ ثلاث ‏"‏ وقد تقدم توجيهه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من الولد‏)‏ بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كانوا‏)‏ في رواية المستملي والحموي ‏"‏ كن ‏"‏ بضم الكاف وتشديد النون، وكأنه أنث باعتبار النفس أو النسمة‏.‏

وفي رواية أبي الوقت ‏"‏ إلا كانوا لها حجابا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت امرأة‏)‏ هي أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها قالت ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده‏:‏ ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة لم يبلغوا الحلم إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم، فقلت‏:‏ واثنان‏؟‏ قال‏:‏ واثنان ‏"‏ وأخرجه أحمد لكن الحديث دون القصة، ووقع لأم مبشر الأنصارية أيضا السؤال عن ذلك، فروى الطبراني أيضا من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر فقال‏:‏ يا أم مبشر، من مات له ثلاثة من الولد دخل الجنة‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله واثنان‏؟‏ فسكت ثم قال‏:‏ نعم واثنان ‏"‏ وقد تقدم من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأل عن ذلك ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضا منهن، وحكى ابن بشكوال أن أم هانئ أيضا سألت عن ذلك، ويحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس، وأما تعدد القصة ففيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة وأجاب بأن الاثنين كذلك فالظاهر أنه كان أوحي إليه ذلك في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدا جدا لأن مفهومه يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بالوحي بناء على القول بمفهوم العدد وهو معتبر هنا كما سيأتي البحث فيه، نعم قد تقدم في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وروى الحاكم والبزار من حديث بريدة أن عمر سأل عن ذلك أيضا ولفظه ‏"‏ ما من امرئ ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد إلا أدخله الله الجنة‏.‏

فقال عمر‏:‏ يا رسول الله واثنان‏؟‏ قال‏:‏ واثنان‏"‏‏.‏

قال الحاكم صحيح الإسناد، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واثنان‏)‏ قال ابن التين تبعا لعياض‏:‏ هذا يدل على أن مفهوم العدد ليس بحجة لأن الصحابية من أهل اللسان ولم تعتبره إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة لكنها جوزت لك فسألته، كذا قال والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لم تسأل، والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية إنما هي محتملة ومن ثم وقع السؤال عن ذلك‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وإنما خصمت الثلاثة بالذكر لأنها أول مراتب الكثرة فبعظم المصيبة يكثر الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لأنها تصير كالعادة كما قيل‏:‏ روعت بالبين حتى ما أراع له‏.‏

انتهى‏.‏

وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة ثم في الاثنين بخلاف الأربعة والخمسة، وهو جمود شديد، فإن من مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشد، وإن ماتوا واحدا بعد واحد فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وعد الصادق، فيلزم على قول القرطبي أنه إن مات له الرابع أن يرتفع عنه ذلك الأجر مع تجدد المصيبة وكفى بهذا فسادا، والحق أن تناول الخبر الأربعة فما فوقها من باب أولى وأحرى، ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة ولا ما فوقها لأنه كالمعلوم عندهم إذ المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم والله أعلم‏.‏

وقال القرطبي أيضا‏:‏ يحتمل أن يفترق الحال في ذلك بافتراق حال المصاب من زيادة رقة القلب وشدة الحب ونحو ذلك، وقد قدمنا الجواب عن ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ واثنان ‏"‏ أي وإذا مات اثنان ما الحكم‏؟‏ فقال ‏"‏ واثنان ‏"‏ أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك‏.‏

ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه ‏"‏ واثنين بالنصب ‏"‏ أي وما حكم اثنين‏.‏

وفي رواية سهل المتقدم ذكرها أو اثنان، وهو ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم النقل عن ابن بطال أنه محمول على أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلا لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة ما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال شريك إلخ‏)‏ وصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ ‏"‏ حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني قال‏:‏ أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابا من النار‏.‏

فقالت امرأة‏:‏ يا رسول الله قدمت اثنين، قال‏:‏ واثنين ‏"‏ ولم تسأله عن الواحد‏.‏

قال أبو هريرة ‏"‏ من لم يبلغ الحنث ‏"‏ وهذا السياق ظاهره أن هذه الزيادة عن أبي هريرة موقوفة، ويحتمل أن يكون المراد أن أبا هريرة وأبا سعيد اتفقا على السياق المرفوع، وزاد أبو هريرة في حديثه هذا القيد وهو مرفوع أيضا، وقد تهدم في العلم من طريق أخرى عن شعبة بالإسناد الأول وقال في آخره ‏"‏ وعن ابن الأصبهاني سمعت أبا حازم عن أبي هريرة وقال‏:‏ ثلاثة لم يبلغوا الحنث ‏"‏ وهذه الزيادة في حديث أبي سعيد من رواية شريك وفي حفظه نطر، لكنها ثابتة عند مسلم من رواية شعبة عن ابن الأصبهاني‏.‏

وقوله ‏"‏ولم تسأله عن الواحد ‏"‏ تقدم ما يتعلق به في أول الباب ويأتي مزيد لذلك في ‏"‏ باب ثناء الناس على الميت ‏"‏ في أواخر كتاب الجنائز، ويأتي زيادة على ذلك في كتاب الرقاق في الكلام على الحديث الذي فيه موت الصبي وأن الصبي يتناول الولد الواحد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا علي‏)‏ هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد‏)‏ وقع في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ للمزي هنا ‏"‏ لم يبلغوا الحنث ‏"‏ وليست في رواية ابن عينة عند البخاري ولا مسلم وإنما هي في متن الطريق الآخر، وفائدة إيراد هذه الطريق الأخيرة عن أبي هريرة أيضا ما في سياقها من العموم في قوله ‏"‏ لا يموت لمسلم إلخ ‏"‏ لشموله النساء والرجال، بخلاف روايته الماضية فإنها مقيدة بالنساء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيلج النار‏)‏ بالنصب لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بتقدير أن، لكن حكى الطيبي أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية ولا سببية هنا إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سببا لولوج من ولدهم النار، قال‏:‏ وإنما الفاء بمعنى الواو التي للجمع وتقريره لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده وولوجه النار، لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وهذا قد تلقاه جماعة عن الطيبي وأقروه عليه، وفيه نظر لأن السببية حاصلة بالنظر إلى الإسناء لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكأن المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد، وهو ظاهر لأن الولوج عام وتخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه، وما ادعاه من أن الفاء بمعنى الواو التي للجمع فيه نظر، ووجدت في شرح المشارق للشيخ أكمل الدين المعنى أن الفعل الثاني لم يحصل عقب الأول فكأنه نفي وقوعهما بصفة أن يكون الثاني عقب الأول لأن المقصود نفي الولوج عقب الموت، قال الطيبي‏:‏ وإن كانت الرواية بالرفع فمعناه لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقدارا يسيرا انتهى‏.‏

ووقع في رواية مالك عن الزهري كما سيأتي في الأيمان والنذور بلفظ ‏"‏ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم ‏"‏ وقوله تمسه بالرفع جزما والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا تحلة القسم‏)‏ بفتح المثناة وكسر المهملة وتشديد اللام أي ما ينحل به القسم وهو اليمين وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها يقال حلل تحليلا وتحلة وتحلا بغير هاء والثالث شاذ‏.‏

وقال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ حللت القسم تحلة أي أبررتها‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ اختلف في المراد بهذا القسم فقيل هو معين وقيل غير معين‏.‏

فالجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم بعينه وإنما معناه التقليل لأمر ورودها وهذا اللفظ يستعمل في هذا تقول‏:‏ لا ينام هذا إلا لتحليل الألية، وتقول ما ضربته إلا تحليلا إذا لم تبالغ في الضرب أي قدرا يصيبه منه مكروه‏.‏

وقيل‏:‏ الاستثناء بمعنى الواو أي لا تمسه النار قليلا ولا كثيرا ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو وجعلوا منه قوله تعالى ‏(‏لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم‏)‏ والأول قول الجمهور وبه جزم أبو عبيد وغيره‏.‏

وقالوا‏:‏ المراد به قوله تعالى ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ قال الخطابي‏:‏ معناه لا يدخل النار ليعاقب بها ولكنه يدخلها مجتازا ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر هذا الحديث ‏"‏ إلا تحلة القسم ‏"‏ يعني الورود‏.‏

وفي سنن سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة في آخره‏:‏ ثم قرأ سفيان ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ومن طريق زمعة بن صالح عن الزهري في آخره‏:‏ قيل وما تحلة القسم‏؟‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ وكذا وقع في رواية كريمة في الأصل، قال أبو عبد الله ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وورد نحوه من طريق أخرى في هذا الحديث رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاري مرفوعا ‏"‏ من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل ‏"‏ يعني الجواز على الصراط، وجاء مثله من حديث آخر أخرجه الطبراني من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه مرفوعا ‏"‏ من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله عز وجل قال ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏"‏ واختلف في موضع القسم من الآية فقيل هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى ‏(‏فوربك لنحشرنهم‏)‏ أي وربك إن منكم، وقيل هو مستفاد من قوله تعالى ‏(‏حتما مقضيا‏)‏ أي قسما واجبا كذا رواه الطبراني وغيره من طريق مرة عن ابن مسعود ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن طريق سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية‏.‏

وقال الطيبي يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله ‏(‏كان على ربك‏)‏ تذييل وتقرير لقوله ‏(‏وإن منكم‏)‏ فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات، واختلف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل هو الدخول روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار أخبرني من سمع من ابن عباس فذكره، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعا ‏"‏ الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما‏"‏، وروى الترمذي وابن أبي حاتم من طريق السدي سمعت مرة يحدث عن عبد الله بن مسعود قال يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم، قال عبد الرحمن ابن مهدي قلت لشعبة‏:‏ إن إسرائيل يرفعه، قال‏:‏ صدق وعمدا أدعه‏.‏

ثم رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مرفوعا، وقيل المراد بالورود الممر عليها رواه الطبري وغيره من طريق بشر بن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار وزاد ‏"‏ يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم‏"‏، وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك ولا تنافي بينهما، لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم فأعلاهم درجة من يمر كلمع البرق كما سيأتي تفصيل ذلك عند شرح حديث الشفاعة في الرقاق إن شاء الله تعالى، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أم مبشر ‏"‏ إن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ لا يدخل أحد شهد الحديبية النار‏:‏ أليس الله يقول ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ فقال لها‏:‏ أليس الله تعالى يقول ‏(‏ثم ننجي الذين اتقوا‏)‏ الآية ‏"‏ وفي هذا بيان ضعف قول من قال الورود مختص بالكفار ومن قال معنى الورود الدنو منها ومن قال معناه الإشراف عليها ومن قال معن ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث والله أعلم‏.‏

وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم أن أولاد المسلمين في الجنة لأنه يبعد أن الله يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء قاله المهلب‏.‏

وكون أولاد المسلمين في الجنة قاله الجمهور ووقفت طائفة قليلة وسيأتي البحث في ذلك في أواخر كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى، وفيه أن من حلف أن لا يفعل كذا ثم فعل منه شيئا ولو قل برت يمينه خلافا لمالك قاله عياض وغيره‏.‏

*3*باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الرجل للمرأة عند القبر‏:‏ اصبري‏)‏ قال الزين بن المنير ما محصله‏:‏ عبر بقوله رجل ليوضح أن ذلك لا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعبر بالقول دون الموعظة ونحوها لكون ذلك الأمر يقع على القدر المشترك من الوعظ وغيره، واقتصر على ذكر الصبر دون التقوى لأنه المتيسر حينئذ المناسب لما هي فيه‏.‏

قال‏:‏ وموضع الترجمة من الفقه جواز مخاطبة الرجال النساء في مثل ذلك بما هو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو موعظة أو تعزية وأن ذلك لا يختص بعجوز دون شابة لما يترتب عليه من المصالح الدينية والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا آدم‏)‏ سيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه أتم من هذا في ‏"‏ باب زيارة القبور ‏"‏ بعد زياد على عشرين بابا، وسيأتي الكلام عليه هناك مستوفي إن شاء الله تعالى‏.‏

ومناسبة هذه الترجمة لما قبلها لجامع ما بينهما من مخاطبة الرجل المرأة بالموعظة، لأن في الأول جواز مخاطبتها بما يرغبها في الأجر إذا احتسبت مصيبتها، وفي هذا مخاطبتها بما يرهبها من الإثم لما تضمنه الحديث من الإشارة إلى أن عدم الصبر ينافي التقوى‏.‏

والله أعلم‏.‏